top of page
بحث

روايات مسكوكة: ما تحمله العملات

  • صورة الكاتب: Khayria Refaat
    Khayria Refaat
  • 13 أكتوبر
  • 6 دقيقة قراءة

تاريخ التحديث: 14 أكتوبر

ree

لم أتوقّع يومًا أن أهتمّ بالعملات. في طفولتي، كان سِيدي "جدّي" يعود من عمله في الحجّ بمكة حاملًا في حقيبته كنوزًا صغيرة وتذكارات تُهدى إليه من الحجّاج الذين قابلهم، منها البطاقات البريدية والمقتنيات الصغيرة والكثير الكثير من العملات. كان يحكي لي عنها بفخر، وعن الرحلة التي قامت بها هذه العملة حتى وصلت إلى يده. لكني لم أكن أنظر إليها حقًا، لم أفهم ما الذي كان يراه فيها، حتى زرت معرض "روايات مسكوكة: إرث السعودية في العملات" في المتحف الوطني السعودي خلال افتتاحه في مطلع سبتمبر.

حظيت بحضور الجولة الافتتاحية مع القيّمين على المعرض: الدكتور ألان بارون والدكتور نايف الشرعان. عندما استمعت إليهما وهما يرويان تاريخ كل عصر، أدركت كم يمكن للتاريخ أن يختبئ فيما لا يتجاوز حجم الكف. المعرض لا يتحدث عن العملات فحسب، بل عن القصص التي تتركها الحضارات خلفها حين يتلاشى كل شيء آخر. أصبحت بفضله أرى العملات بشكلٍ مختلف، بوصفها رواة للتاريخ، تحكي عن الإيمان، والفخر، والاقتصاد، والفن.


يتكشّف المعرض بزمنٍ متسلسل، لكنه لا يخلو من محطاتٍ موضوعيّة تفتح زوايا تأمل جديدة. تبدأ الرحلة بالعملات ما قبل الإسلام، حيث تُقدَّم الجزيرة العربية بوصفها ملتقى طرق التجارة العالمية، تتقاطع فيها العملات اليونانية والرومانية والساسانية. ثم ننتقل إلى العملات الأموية، تلك اللحظة المفصلية التي تحوّلت فيها النقود إلى إعلان إيماني، حين استبدلت صور الملوك بنقوشٍ قرآنية بديعة. بعدها تأتي إحدى أقرب المحطات إلى قلبي: النساء في العملات، حيث تبرز أسماء مثل السيدة أروى الصليحية وشجر الدر إلى جانب كاترين العظيمة وماريا تيريزا. حضورٌ مؤنّث للتاريخ، يذكّر بأن السلطة لم تكن يومًا حكرًا على الرجال. ثم يأتي قسمٌ آخر لا يقل جمالًا: العملات الحِرَفية: سكّ الفن والثقافة، الذي يحتفي بالحِرَف الدقيقة، ودَور دُور السكّ، والخط العربي كفنٍّ قائم بذاته.

وتصبح الرحلة أكثر حيويّة حين نصل إلى قسم كنوز وعملات المملكة العربية السعودية، الذي يتتبّع تاريخ السكّ في مكة والمدينة عبر عصورٍ متعددة مرّت بها الدولة الإسلامية، من العثمانية إلى السعودية المبكرة وحقب أخرى. ويُختتم المشهد بمحور العملة التي لم تُسكّ نرى أمامها عملاً تركيبيًا موقعياً للفنان السويسري زيمون والنقود في زمننا المعاصر، حيث نختتم الرحلة بالعملات الرقمية.


ree

السينوغرافيا التي صمّمها استوديو غيث وجاد تنسج الرحلة بصريًا بذكاءٍ ودفء. كل قاعة تبدو كأنها فصلٌ جديد. يبدأ المعرض بهدوءٍ مهيب، في جوٍّ متّزن، بإضاءةٍ خافتة وإحساسٍ بالسكينة، ليفسح المجال للتأمل. الأقسام الأولى بسيطة في تصميمها، مشرقة بنورها، تتيح للعين أن تركز على النقود وحدها، بلا تشويشٍ ولا زينةٍ زائدة. ومع التوغّل في المسار، يتبدّل الإيقاع تدريجيًا: يدفأ الضوء، وتلين زوايا الجدران، وتبدأ الأصوات الخافتة بالظهور في الخلفية. الغرف الوسطى تزداد عتمةً ودرامية، تتلألأ فيها الإضاءة الذهبية على أسطح الدنانير، أما القاعات الأخيرة فتنبض بالحركة، أكثر حيويةً وتفاعلًا. تتطور السينوغرافيا كما تتطور الحكاية نفسها، من عرضٍ توثيقيٍّ علمي إلى تجربةٍ حسّية بإيقاع متناغم.

تتناول القاعات الأولى العملات ما قبل الإسلام، متتبعةً صلات الجزيرة العربية باليونان وروما وبيزنطة وفارس. تلك القطع التي تحمل وجوه الأباطرة والآلهة ومذابح النار، تذكّر الزائر بأن الجزيرة لم تكن يومًا معزولة، بل كانت نقطة التقاءٍ للحضارات، قبل النفط، وقبل الحدود. ثم يتدفّق السرد إلى الحقبة الأموية، حيث فقدت النقود ملامحها واكتسبت إيمانها، لتظهر الآيات القرآنية محفورة بخط كوفيٍّ جميل في الموضع الذي كان يحتله وجه الحاكم. هنا تشتدّ الإضاءة، ويصبح العرض أكثر مباشرة، كأن القيّمين أرادوا أن يضعوا خطًّا واضحًا بين زمن الصورة وزمن الكلمة.


ree

ثم تأتي إحدى اللحظات المفضلة لديّ في قسم النساء في العملات. أن ترى السيدة أروى الصليحية من اليمن وشجر الدر إلى جانب كاترين العظيمة وماريا تيريزا النمساوية، كان مشهدًا متّزنًا ومتماسكًا، كأن الزمن يمدّ خيطًا واحدًا بين عصورٍ متباعدة من السلطة والتصوير والحكم. يضع هذا القسم حضور النساء ضمن السياق التاريخي نفسه للسلطة وصناعة الصورة، لا لشيء سوى استمرارٍ طبيعي لدورٍ لطالما وُجد ثم طُمِس. وقد تناول القيّمون هذا المحور بوضوحٍ واتزان، مبرزين كيف تحوّل ظهور المرأة على النقود إلى امتدادٍ لشرعية الحكم ذاتها. ذلك التوازن بين النماذج الإسلامية والأوروبية سمح للموضوع أن يتكشف بسلاسة، مستعيدًا حضور النساء في الذاكرة النقدية، حيث اعتادت صفحات التاريخ أن تمحوهن.

ree

ثم تتّسع السينوغرافيا، لتأخذنا إلى فضاءٍ أكثر انفتاحًا في قسم كنوز وعملات المملكة العربية السعودية، حيث تُعرض النقود التي دارت يومًا في مكة والمدينة، بين أيدي الحجاج والتجار والعلماء، في أقدس مدن العالم الإسلامي. سرّني أن أرى أخيرًا حضورًا لعملاتٍ عباسية وسلالاتٍ أخرى. لكن هنا بدأت ملاحظتي الوحيدة على هذا القسم. كانت خزائن العرض بديعة التصميم، لكن بطاقات التعريف جعلت من الصعب ربط كل وصفٍ بقطعة محددة، خصوصًا في جزء مكة، حيث عُرضت عملات من عصورٍ مختلفة جنبًا إلى جنب. غابت الحدود البصرية بين الأزمنة، فأصبح تتبّع التطور الزمني أمرًا مربكًا قليلًا. تمنّيت لو أتيح فصلٌ أوضح بين الحقب، مع نصوصٍ حائطية ملاصقة لكل مجموعة، ليتمكّن الزائر من ملاحظة التحولات الدقيقة في الشكل والنقش والدلالة.

ree

ومع ذلك، يبقى هذا القسم من أكثر لحظات المعرض شاعرية. إبقاء كنز الشعيبة مغمورًا بالماء، محاطًا بسينوغرافيا تستحضر موج البحر وظلّ السفينة، منح التجربة حسًّا حقيقيًا بالاكتشاف. ربما أقول ذلك بانحيازٍ ابنة مدينة جدة التي لا تخفي عشقها للبحر، لكنني أؤمن أن هذا النوع من التفاصيل هو ما يحوّل تصميم المعارض إلى سردٍ بصريّ حيّ.


ree


في أماكن أخرى، استُخدمت المرايا بذكاءٍ بصري لافت، خصوصًا في قاعة العملات الأموية، حيث أضافت لمسة شعرية جعلت انعكاسات النقود تتكرّر بلا نهاية، كأنها صدى للدوران المستمر للنقود في أرجاء الإمبراطورية. بالنسبة لي، حمل هذا المشهد رمزية القوة والاتساع الذي بلغه العالم الإسلامي آنذاك. غير أن جمال الفكرة لم يواكبه التنفيذ؛ فالمرايا لم تمتلك النقاء البصري الذي ينسجم مع أناقة باقي المعرض. أما القاعة الأخيرة على وجه الخصوص، فكانت تحتاج إلى مواد أكثر جودة، إذ انكسرت عندها قليلًا تلك الهالة المتقنة التي حافظ عليها العرض منذ بدايته.



ree



ثم يأتي العمل التركيبي للفنان زيمون، قطعة حركية بالأبيض والأسود تتحرّك فيها النقود وتلامس الأرض بخفة، في إيقاعٍ متواصل بين الصمت والصوت. عمل بسيط في شكله، لكنه آسر في حضوره. ومع اقترانه بموضوع العملة التي لم تُسكّ، يكتسب عمقًا مفاهيميًا أكبر، عملٌ صوتي عن الاحتمالات، عمّا كان يمكن أن يكون. أرى أنها ثنائية مدهشة، عملة لم تُضرب أبدًا، وصوت ضربٍ لا ينتهي.


أود التوقف قليلًا عند الوسائط المرئية والعناصر التفاعلية في المعرض. عادةً ما أرحّب بإدخال الوسائط المتعددة في المعارض القائمة على المقتنيات، خاصةً عندما تكون المعروضات مجموعة من العملات، لما فيها من سكونٍ بصري يحتاج إلى حركة تكسر الرتابة. لكن في هذا المعرض، جاءت بعض التدخلات أنجح من غيرها. كانت لعبة «ابحث عن الكنز» فكرة ذكية وهادفة، مساحة لعب خفيفة للأطفال تتيح للأهل فرصة التجوّل بهدوء دون استعجال. أما الفيديو التعريفي عند المدخل، بصوته الرسمي، بدا لي ذا نبرة مؤسسية أكثر مما يناسب هذا المعرض الحالم. النصوص الحائطية كانت قد أدّت الغرض بوضوح، وربما كان بإمكان المادة المرئية أن تبدو طبيعية أكثر إن تم دمجها بجانب المقتنيات كما حدث لاحقًا، بدل أن تُعرض كعنصرٍ مستقل في القاعة الأولى.

ree

وفي القاعات الختامية، يتقدّم الزمن نحو الحاضر: من الريال غير المسكوك لعام 1977 إلى العملات الرقمية وما تمثّله من لمحة نحو المشهد المالي المستقبلي للمملكة. نهايةٌ شعرية على نحوٍ مفاجئ، تربط بين الثقل الروحي للنقود القديمة وتجريد العملة الرقمية. لم يعتمد القيّمون على الحنين، بل عرضوا كيف يستمر سكّ القيمة والإيمان والهوية بأشكالٍ جديدة. رغم ذلك، جاءت طريقة عرض العملات الرقمية عبر الأسطح العاكسة والتركيب التفاعلي منفصلة قليلًا عن إيقاع السرد العام. الفكرة بحد ذاتها جميلة، لكنها بدت مباغتة لغياب النصوص التوضيحية أو السياق المرافق، خصوصًا للزائر الذي يصل إلى هذه النقطة دون مرافقةٍ من أحد القيّمين. حين حضرت الجولة مع القيّمين، كان المشهد مفهومًا ضمنيًا، لكني أتصوّر أن الزيارة الفردية قد تمنح شعورًا بالانقطاع. ومع هذا، يبقى الختام خفيفًا وممتعًا، طريقة مرحة لمغادرة رحلةٍ غارقة في التأمل.


أما الإضاءة، فكانت في معظمها دقيقة ودافئة، موزونة بعناية. لكن ظلّ في بالي سؤال عن الزوّار من ذوي الإعاقات البصرية. بعض القطع صغيرة، وبعضها الآخر معروض بتباينٍ لونيٍّ عالٍ قد يصعّب الرؤية. وجود نسخٍ لمسية، أو لوحاتٍ بلغة برايل، أو مكبّراتٍ وصورٍ توضيحية -كما في قسم النساء في العملات- يمكن أن يجعل التجربة أكثر شمولًا. فالنقود صُمّمت في الأصل لتُمسّ، ولم تُصنع لتُرى فقط. آمل أن يأتي يومٌ يستطيع فيه الزوّار المكفوفون أن يلمسوا نقوشها وملمسها مباشرة وإن كانت نسخة.


ree

ما يجمع بين كل هذه المحاور في المعرض هو قناعة القيّمين بأن النقود ليست مجرد أدوات اقتصادية، بل أرشيف ثقافي يوثّق الزمن "شهودٌ على التاريخ" كما يصفها الدكتور ألان بارون. هذه القناعة تجسدت بأناقة في الكتالوج المصاحب للمعرض، الذي يستحق ثناءً خاصًا. صمّمته فرح فيّاض بعينٍ دقيقة، وقدّم لقطات مقرّبة مذهلة للنقود، إلى جانب مقالاتٍ ثريّة كتبها كلٌّ من منى خزندار، ماجد العتيبي، الدكتور بارون، والدكتور الشرعان. بين صفحاته أيضًا فصل بعنوان الكنوز اللامادية والأساطير الشعبية، يروي حكايات الذهب المخبّأ في العلا وثاج وحائل، بما يعيد ربط النقد بالحكاية والخيال الشعبي. إنه مرجع قيّم، لكنه للأسف متوفر بالإنجليزية فقط حتى الآن. بحثت عن نسخة عربية ولم أجد، لكنّ صديقة أخبرتني أنها تلقّت نسخة عربية وآمل أن يكون المتحف بصدد توفير المزيد منها أو إصدار نسخة إلكترونية، إذ تحرم ندرتها شريحةً واسعة من الجمهور المحلي من الوصول إلى هذا المحتوى. كما أن بعض الصور التفصيلية والنصوص التي تضمنها الكتالوج كان يمكن دمجها جزئيًا على جدران القاعات نفسها، لتتيح للزوّار قراءة ما قد تعجز العين المجردة عن رؤيته، خصوصًا لمن لا يستطيعون اقتناء الكتاب.


ree

في النهاية، يبقى معرض «روايات مسكوكة» تجربةً تعيد تعريف علم المسكوكات بوصفه تاريخًا حيًا يُروى عبر التصميم والصوت والضوء. جمع بين مجموعة الدكتور ألان بارون الخاصة ومقتنيات وزارة الثقافة، وبين رؤية جيلٍ جديد من القيّمين السعوديين والمصممين والباحثين: استوديو غيث وجاد، هاجر آدم، رنا زاهر، آرتيزان دي آيدييه، بيكو إنترناشونال، وفريق المتحف الوطني بقيادة رُلى الغرير.

وأنا أغادر المتحف تلك الليلة، عادت إلى ذهني عملات سِيدي، كيف كان يصفّها أمامي ويروي لي حكاياتها. الآن فقط أدرك قيمتها. كل قطعة نقد تحمل قصة؛ بعضها يهمس بالإيمان، وبعضها بالقوة، وبعضها بأسماء نساءٍ تجرأن على الحكم. وإن أصغيت طويلًا، لن تبدو كقطع معدنية، بل كذاكرةٍ تتكلم. ترك فيَّ معرض روايات مسكوكة فكرةً لا تفارقني: كيف يمكن لشيءٍ صغير كالنقود أن يحمل صوت أرضٍ بأكملها. أظهر المعرض احترامًا عميقًا للنقود كفن، كلغة، وكشهادةٍ على الزمن. تمنّيت لو كان أوسع، أو لو أصبح يومًا قاعة دائمة تتيح للزوار قراءة تاريخ هذه الأرض بعمقٍ أكبر، وبوسائل تضمن وصول التجربة إلى الجميع.

إلى أن يتحقق ذلك، أنصح بزيارته قبل إغلاقه في 16 ديسمبر 2025. المعرض يصاحبه برنامج ثقافي غني يضم ندوات وورش عمل وحوارات متخصصة، وأنشطة للأطفال والعائلات، إلى جانب برامج مخصصة للأشخاص ذوي الإعاقة بالتعاون مع هيئة رعاية الأشخاص ذوي الإعاقة والمعهد الملكي للفنون التقليدية «ورِث». أتطلع لحضور هذه الفعاليات، وآمل أن يبقى المعرض فترة أطول.

 
 
 

تعليقات


Khayria Refaat

Riyadh, Saudi Arabia.

bottom of page